قريظة وأمريكا مرتع غدر ومنبع شر      

قريظة وأمريكا مرتع غدر ومنبع شر      

الكاتب : أبو يحيى الليبي

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد:

فبعد شهرٍ من الحصار المحكم، مع زلزلة الخوف ولوعة الجوع وشدة البرد وإطباق الأعداء، في حالة وصفها القرآن أدق وصفٍ فقال عز شأنه: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا ۝ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا}[الأحزاب/۱۰، ۱۱]، حتى يروى عن أم سلمة رضي الله عنها أنها كانت تقول : “قد شهدت مع النبي صلى الله عليه وسلم مشاهد فيها قتال وخوف – المريسيع، وخيبر، وكنا بالحديبية، وفي الفتح، وحنين – لم يكن من ذلك شيء أتعب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أخوف عندنا من الخندق؛ وذلك أن المسلمين كانوا في مثل الحرجة وأن قريظة لا نأمنها على الذراري والمدينة تحرس حتى الصباح يسمع تكبير المسلمين فيها حتى يصبحوا”اهـ بعد هذا كله جاء الفرجُ من عند الله ومن حيث لا يحتسب المؤمنون، فكانت منحة خالصة ونعمة سابغة من الله سبحانه : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا}[الأحزاب/۹]، وانقلبت الأحزاب قافلة لم تشفِ صدرها أو تَنلْ ثأرها، بل تضاعف غيظها من غير أن تجد له منفساً، وأبدلت بعد بطرها خزياً وأسفاً، وقد طوت الصحاري وقطعت القفار، وحشدت لمعركتها تلك ما في وسعها، ونثرت كل ما حوته كنانتها، ووصلت إلى أبواب المدينة يدفعها الوغر، وتحركها الضغينة، وتأزها العداوة الدفينة، وعاينت عدوّها الذي قتّل أشرافهم وأسر سراتهم، ومع ذلك حيل بينهم وبين ما يشتهون، فرجعوا بصفقة المغبون، وبذل الدهر لا بعزّه، وإنه – والله- لكمدٌ وأيّ كمد: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} [الأحزاب/۲۵]

فبعد هذه المعركة العصيبة التي اشتد فيها النّصَب، وخمصت البطون، وكثرت الظنون، وطال معها السهد، وزاغت الأبصار، وتتابعت المشاغل حتى أُخِّرت الصلاة الوسطى عن وقتها -رجع رسول الله صلى الله عليه وسلَّم إلى بيته وقد انكشفت الغمة وتنزلت السكينة ليأخذ قسطاً من الراحة، فما أن وصَل ولبث قليلاً حتى جاءه القوي الأمين جبريل عليه السلام داعياً إياه للخروج إلى بني قريظة، فعن عائشة رضي الله عنها قالت : “لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق وضع السلاح واغتسل، فأتاه جبريل عليه السلام وهو ينفض رأسه من الغبار، فقال: قد وضعت السلاح؟! والله ما وضعتُه، اخرج إليهم قال النبي صلى الله عليه وسلم: فأين؟ فأشار إلى بني قريظة، فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم” متفق عليه، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فزعاً فاستنهض أصحابه وأمرهم بالمسارعة ونادى عليهم : ألا لا يصلينَّ أحد العصر إلا في بني قريظة، فانطلقت جموع الصحابة رضي الله تعالى عنهم حتى وصلوا حصونهم، وتبعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فحاصروهم وناوشوهم، وقد روى الحاكم – وقال صحيح على شرط الشيخين – أن النبي صلى الله عليه وسلم ناداهم قائلاً : يا إخوة القردة والخنازير! فقالوا : يا أبا القاسم لم تك فحّاشاً، فلم يزالوا كذلك حتى نزلوا على حكم سعد بن معاذ سيد الأوس رضي الله عنه.

عن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – : قال : “نزل أهل قريظة على حكم سعد بن معاذ، فأرسل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى سعد ، فأتى على حمارٍ، فلما دنا من المسجد قال للأنصار : قوموا إلى سيدكم، فقال : هؤلاء نزلوا على حكمك ، فقال : تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : قضيت بحكم الله” رواه البخاري ومسلم، فقتلوا من أنبت منهم، وكانوا أربعمائة، وفي بعض الروايات بين السبعمائة والثمانمائة وربما أوصلهم بعضهم التسعمائة.

فقد كان حكم سعد رضي الله عنه -والذي هو حكم الله- في بني قريظة بالغ الغلظة، شديد الوطأة، وذلك لقبح فِعلتهم، وتوقيت جريمتهم، ومرتع البغي وخيم، حيث كان المسلمون في المدينة في غاية الكرب من فرط احتشاد الأحزاب، ووصولهم قاب قوسين أو أدنى من معقل الإسلام، والنفاق ينفث سمومه ليفت في العضد ويخلخل اليقين، فانتهز بنو قريظة الفرصة ظانين أن الدائرة ستكون على الإسلام وأهله، فأظهروا خستهم، ونصبوا شوكتهم، وأبدوا دناءتهم، وكشروا عن أنيابهم فحل بهم ما حل وضربت عليهم الذِّلة وقذف الله في قلوبهم الرعب جزاءً وفاقاً ولا يظلم ربك أحداً، كما قال عز وجل ذاكراً حالهم ومذكراً الصحابة بنعمته عليهم: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا ۝ وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا}[الأحزاب/۲۶، ۲۷]

هذا هو ملخص ما حصل لبني قريظة، وإن المرء ليشده حقاً شدة النكال الذي نزل بهم -والذي كان حكم الملك من فوق السبع الطباق- ويدرك تمام الإدراك، أن هذا الدين دين رحمةٍ وملحمةٍ، ورأفةٍ وشدةٍ، ولينٍ وغلظةٍ، ولطفٍ وعزةٍ، فلا يضع السيف موضع الندى ولا الندى موضع السيف، فلا يجنح إلى جانبٍ فيُذَل ويمتهن ويُعبَث به بدعوى أنه دين الرحمة!ٍ، ولا يتعدى ويتجاوز فيطغى ويَظلِم تحت عنوان : واغلظ عليهم!، بل كما قال الله تعالى : {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}[الفتح/۲۹]، وقال عز وجل : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ}[المائدة/۵۴]،وقال سبحانه في وصف نبيه -صلى الله عليه وسلم – : {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}[آل عمران/۱۵۹]، ومع ذلك أمره بالغلظة على الكفار والمنافقين في موضعين من كتابه فقال : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ}[التوبة/۷۳]، وقال سبحانه أيضاً : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً}[التوبة/۱۲۳] ثم قال في وصف نبيه عليه الصلاة والسلام بالرحمة والرأفة بالمؤمنين : {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}[التوبة/۱۲۸]

إذا قيل: رفقاً! قال: للحلم موضعٌ … وحلم الفتى في غير موضعه جهل وقال الآخر : أرى الحِلمَ في بعض المواطنِ ذِلّةً … وفي بعضِها عِزّاً يسوِّدُ صاحِبَه بهدى الكتاب دعا فمَن لم يستجب …بهدى الكتاب فبالكتائب يردع قال العلامة الشنقيطي -رحمه الله – : ” واعلم أن الدعوة إلى الله بطريقين: طريق لين، وطريق قسوة. أما طريق اللين فهي الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وإيضاح الأدلة في أحسن أسلوب وألطفه. فإن نجحت هذه الطريق فبها ونعمت، وهو المطلوب وإن لم تنجح تعينت طريق القسوة بالسيف حتى يعبد الله وحده وتقام حدوده، وتمتثل أوامره، وتجتنب نواهيه، وإلى هذا الإشارة بقوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} الآية.

ففيه الإشارة إلى إعمال السيف بعد إقامة الحجة، فإن لم تنفع الكتب تعينت الكتائب، والله تعالى قد يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.”اهـ

فلا بد من إعطاء كل ذي حقّ حقه، وإنزال كل شيء منزله، ووضع الأمور في مواضعها، ولا يخرج هذا عن العدل الذي قامت به السماوات والأرض، أو يشذ عن الإحسان الذي جاء به دين الإسلام وأمر به ربنا الرحمن فقال : {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}[النحل/۹۰].

وكثيرٌ ممن أصابتهم لوثة الانهزام العصرية، وتشربت قلوبهم ثقافة الاستسلام لمفاهيم الحضارة الغربية، وجعلوها ميزاناً أو عنواناً للعدل والإنصاف و(الإنسانية!) ومراعاة حقوق البشر، وصار دأبهم التطويع للإرضاء، والتلميع للإغواء، والتمييع والتفنن في ليَّ الألسن ببهرج الكلام- راحوا يضربون في مهامه التخمين، وشذوذ الأفكار، وشطحات الأوهام، ليستخرجوا منها ما ينجيهم من ورطة الوقوف في قفص اتهام الإسلام بالقسوة والفظاعة والفظاظة والإفراط في العقوبة (والخروج عن حد المعقول) والتنكب لسبيل الرحمة التي زعموا أن هذه الحادثة (حادثة بني قريظة) قد تضلّعت منها، فأتوا في ذلك بالعجائب التي إن أرضتهم وأرضت أرباب الغرب فلن ترضيَ ربهم الذي أنزل الكتاب مفصلا، وأرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون : {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ}[البقرة/۱۲۰].

والإسلام ليس بحاجة إلى منهزمٍ لينصره، ولا لحائرٍ مضطربٍ ليوضح أحكامه، فليذهب الشاكُّ إلى شاكٍّ مثله أما الراسخون فهم على بينة من أمرهم : {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}[الجاثية/۱۸].

ولذا فإن أكبر زلةٍ بل ضِلة يقع فيها كثير ممن يريد تحسين صورة الإسلام -وما أحسنَ وجهَ الإسلام فلا يحتاج إلى تحسين- أمام الغرب هو إظهاره في هيئة ممسوخةٍ شوهاء خرقاء ملفقة مطلخة من فرث الأهواء ودم الآراء يرى كلُّ سويٍّ شناعتها، حتى إن بدت لذلك المسكين بسبب اتباع الظن وما تهوى الأنفس صورة مشرقة بيضاء كأنها اللبن الخالص!، ولو تركت أحكام الشرع على حالها، وأجريت مجراها وبقيت على سجيتها ولم تكلَّف ما لم تطق لكان عليها من معانيها شاهدُ، تذعن له القلوب، وتلائمه الفِطَر، وتستسلم لحججه العقول، وإن جحدته الألسن، وكابر في رده أصحاب النفوس المريضة والدعاوى العريضة : {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}[الأنعام/۳۳]، {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}[النمل/۱۴]

فهذه سوانح خواطر وشذرات متناثرات التقطتها من هذا الحدث العظيم الذي دونه القرآن الكريم، وجعل خاتمته منَّة على المؤمنين مع مقارنة له ببعض أحوال وليدة الشر ومحنةِ البشر وصِنوة الإفساد ومُهلكة الحرث والنسل، وحارقة الزرع والضرع، وحالِقة الخُلُق والقِيَم، المملكة المنكودة سلطان الشيطان ( أمريكا) التي أَمِر أمرُها حيناً من الدهر لم تكن قبله شيئاً مذكوراً ففتحت عليها أبواب كل شي، وفرحت بما عندها من العلم، وقالت : من أشد منا قوة؟، وظنت أنها مانعتها حصونها من الله، فإذا شمسها قد آذنت بالأفول، ولن يكون لها -بإذن الله – بعد ذلك قفول، وإذا نزل الهرم بالدولة فلا يرتفع؛ لأن الظلم مؤذن بخراب العمران : {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ۝ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الأنعام/۴۴-۴۵].

أولاً : إن أكثر ما يعين المرء على فهم أحداث السيرة النبوية والانتفاع بها في استخلاص العبر واستنباط الدروس – فيما أرى- هو عدم وقوفه على مجرد صور وهيئات الأحداث والوقائع، بل عليه أن ينظر لما وراء ذلك من المعاني ويغوص في الحقائق التي تكاد تكون ثابتة راسخة في قانون الكون مطردة مع سننه، فلا يغيرها كر الدهور ولا مر العصور، ثم استحضار أن تلك الأحداث إنما جرت على أيدي بشرٍ وبجهودهم الطبيعية التي حالفها توفيقٌ وتسديدٌ وعونٌ من الله سبحانه، ولم تقع على أيديهم بخوارق أخرجتهم عن الطبيعة البشرية، وما حصل من ذلك فإنما هي نُتَفٌ في مسيرة الأحداث الطويلة فليست هي الأصل، وقد ألمح القرآن إلى شيء من هذا المعنى كما قال عز وجل : {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ}[محمد/۴]، ولعل في إنزال الملائكة يوم بدر بأعدادهم مردفين يضربون بأسيافهم وأسواطهم الأعناق والأطراف ما يشير لهذا المعنى، ومن تمعّن في آيات الكتاب العزيز يستشف منها الإيماء إلى هذا الأمر، فتأمل قوله تعالى : {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ}[الأنفال/۵۹] والذي يدل على كمال قدرته عز شأنه، وأن الكافرين لن يفوتوه أو يعجزوه، فهم تحت قهره وسلطانه سبحانه، فحتى لا يركن المسلمون إلى مجرد قدرة الله عز وجل وإحاطته بالكافرين من غير أن يكون منهم عملٌ وسعيٌ واجتهاد (التكليف الشرعي)، وكي لا يقال ما دام الله عز وجل قادراً عليهم ولن يسبقوه أو ينجوا من عذابه فما الحاجة إلى الجهد والسعي إذاً -جاء بعدها الأمر الصريح بالإعداد والتجهز وإنفاق الأموال في ذلك ليعلموا أن أحكام الله جارية على سننٍ ومنوطة بأفعال المكلفين فقال عز وجل : {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ}[الأنفال/۶۰]، بل هذا هو مقتضى التكليف الشرعي المتعلق بأفعال المكلفين والذي حُدَّ بالاستطاعة، فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها.

ومثل ذلك قوله تعالى في السورة نفسها : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}[الأنفال/۶۴]، حيث تدل الآية على أن الله تعالى كاف نبيَه وكاف مَن اتَّبعه من المؤمنين، فجاء بعدها مباشرة قوله عز وجل : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ}[الأنفال/۶۵] حتى يدرك المؤمنون أن كفاية الله لهم لا تعني تخليهم عن القيام بواجب الأعمال والتي منها الجهاد والتحريض عليه والصبر أمام أعدائهم، فيجمعون بين الاجتهاد في القيام بما أمرهم الله به مما هو في طوقهم وقدرتهم ودائرة تكليفهم وبين توكلهم على الله عز وجل واعتمادهم عليه ولجوئهم إليه، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدرٍ إذ عبأ الجيش وصف الصفوف وقال لأصحابه : ” إذا أكثبوكم فارموهم بالنبل واستبقوا نبلكم”رواه البخاري، ومع ذلك رفع يديه في العريش وأصبح يهتف بربه ويستغيث به ويستنزل نصره ويقول : “اللهم أنجز ما وعدتني اللهم أنجز ما وعدتني ، اللهم إنك إن تهلك هذه العصابة من الإسلام فلا تعبد فى الأرض أبداً” فجمع بين التدبير والحيطة والتأهب وبين اللجوء إلى الله والاستغاثة به والإلحاح عليه، هذا وهو الموعود بإحدى الطائفتين العير أو النفير، وعلى كلٍّ فمثل هذه الإشارت في كتاب الله كثيرة لمن تدبرها.

إذاً فما نتدارسه من أحداثٍ ونستحضره من وقائع إنما قام بها إناسٌ يحملون كامل الصفات البشرية، فيمشون ويقفون، ويجوعون ويشبعون، وينامون ويستيقظون، ويأمنون ويخافون، ويحبون ويبغضون، ويتعبون ويستريحون، ويجرحون ويتألمون، مع القطع بأن الله عز وجل قد خصهم بأمورٍ لن يدركهم فيها غيرهم من صلاح القلوب، وزكاء النفوس، وعلو الهمة، وصفاء السريرة، وخلوص العبادة، واستقامة الأعمال، وعمق الفهم، وسعة الإدراك، وغير ذلك مما أكرمهم الله به فهم خير القرون، ويكفي أن الله قد اصفطاهم لصحبة نبيه والاضطلاع بتبليغ شريعته لمن بعده، وجعْلِهم ميزاناً في الاستقامة والهداية، ومقصداً في الائتساء والاتباع، وصار سبيلهم هو سبيل المؤمنين، فكل مَن لحقهم فهو تبعٌ لهم ومن شذ شذّ في النار: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[التوبة/۱۰۰] : {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}[النساء/۱۱۵] : {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر/۱۰] فكثيراً ما يغيب عنا استشعار أن هذه الأحداث العظيمة التي أفنت دولاً وأقامت دولاً وأذلت ملوكاً وفتحت أراضيَ -إنما وقعت لحظة بلحظة، وحركةً حركة، فلم تتخط الجهود البشرية، ولم تتجاوز دائرة ما في الإطاقة من الأفعال والأقوال، ولم تجرِ على قوانين الخوارق ولا انتظار حلولها وترقب نزولها، فترانا نأخذ الحدث بمجمله وعمومه فما حصل في شهرٍ أو شهرين ربما تقرأه في دقيقة أو دقيقتين، ونمر عليه مرورا عابراً، فلا تعرف من القصة إلا كون البداية هي كذا والنهاية كذا، إلا أن استحضار حال القائمين على تلك الأحوال وهم في صفاتهم البشرية، وتفاصيل حركاتهم، وتنوّع مشاعرهم -والتي دون القرآن بعضها- تعطي الحدث بعداً آخر يجعلك تعيش وكأنك معهم وبينهم، ممتزجٌ بهم ومتحركٌ في ركابهم، وهذا من أعظم ما يقوي الهمة ويحث على الائتساء، ويجعل الإنسان بعيداً عن اليأس والإحباط الذي يتولد عن انقطاع الأمل في الاقتراب من الفضل الذي منَّ الله به على أولئك السابقين الأخيار، كما أنه يعطي المرء فهماً حقيقياً واضحاً متمكناً لطبيعة هذا الدين العظيم، واتساع مفهوم العبادة بحيث تحيط بجوانب الحياة كلها والتي تقوم على المجهود البشري، فلا يسبح المرء في عالم الخيال والافتراض والمثالية المعجِزة، حتى إذا أراد أن يتنزل إلى الواقع ليطبق تلك الصورة الذهنية المشرقة السامقة اصطدم بالحقائق وتعثَّر في العقبات الملاصقة لمساعي البشر فيجد الضعف والخطأ والقصور والتقصير وربما الهوى وميول النفوس وغير ذلك، فيصاب بالإحباط أو يرجع القهقرى وينقلب على عقبيه والعياذ بالله، وكذلك لا يكون فيها (أي العبادة) شيء على حساب شيء، فضلاً عن حصرها في زاوية ضيقة مطبقة هي أقرب إلى التعطيل منها إلى التكليف، كأولئك المتصوفة الذين جعلوا الدين ظلمة ومسبحة وطقطقات يتبع بعضها بعضاً بالليل والنهار، وأوراداً متسلسلة تنقطع دون بلوغ آخرها أنفاس الناس، مع عيش أحدهم عالة يتكفف الخلق ويبذل ماء وجهه وهو يحسب أنه متوكلٌ على ربه متفرغٌ (لعبادته) التي لا يتصور أنها تعدو ما هو فيه، ويرى الاشتغال بغيرها قسوة للقلب وتفريقاً للجمع وحائلاً دون بلوغ أعلى مراتب الولاية، وانظر كيف كان العدو في بعض الأزمنة يبتلع بلاد المسلمين واحدة تلو الأخرى ويعيث في الأرض فساداً فيقتل وينتهك ويسلب وكثيرٌ من أولئك (العبَّاد) متفرغون للجهاد الأكبر بقَدْعِ النفس وفَلِّ شَباتِها، وقطع دابر وساوسها وشهواتها، ومطاردة دقائق خواطرها وتنقية ذرات شوائبها، فأشغلهم ذلك عن الجهاد الأصغر! المتمثل في دفع أولئك الشراذم المعتدين، فدخلوا في سراديب رهبانية ابتدعوها لم تكتب عليهم بل نقضها دينهم.

هذا ولا يقتصر العوج في ذلك على الفهم الصوفي الأخرق، بل لذلك نظائر كثيرة وفي جوانب متعددة خاصة في عصرنا الحديث، والغرض الإشارة وقد حصلت، فالمقصود أن قراءة السيرة النبوية – وكذلك الأحداث التاريخية- وتصوّر أحوال وقائعها بطريقة لا تخرجها عن عالم الإمكانات البشرية بل تسير معها تماماً كما يحصل كل مجهودٍ في نطاق المقدور والذي يتفاوت فيه الناس تفاوتاً كبيراً مع وجود الحدّ المشترك بينهم -يجعل المرء يعيش معها بوجدانه الذي يورث ثمرات عملية، فيجمع بين حياة القلب والاندفاع للعمل فتُجنى ثماره يانعة، وتؤتي أكلها كل حين بإذن ربها : {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}[الأحزاب/۲۱].

فتخيّل معي أن تقتيل رجالات بني قريظة، يُنقَل لك على الهواء مباشرة، أو تطّلع عليه من هضبة مشرفة على مكان الحدث، فترى الرجل اليهودي بلحيته البيضاء وذوائبه المسدولة وقد أنزل من الحصن وعيناه جاحظتان يجر رجليه إذ يقاد إلى الموت وهو ينظر، وقد شدت يداه بالقيد، والصحابي آخذٌ بعضده يسحبه أو يدفعه إلى محل ضرب الأعناق بالسيوف، فيؤتى به فيوقف على حافة الخندق الذي خد لذلك، فترى الصحابي بسيفه الصقيل قد وقف بجانبه ثم رفع سيفه وضربه ضربة على عنقه أطنّ بها رأسه فخرَّ في ذلك الأخدود وقد تطاير منه الدم، وسقطت جثته على جثث غيره، وهكذا!، وأنت ترى ذلك كله، فيؤتى بالمراهق وقد شُكَّ فيه أبالغٌ هو أم لا؟ فيؤخذ في ناحية من النواحي بجوار جدار الحصن فيكشف عنه ليرى أأنبت أم لا، فيقول الصحابي للآخر : إن هذا قد أنبت!، فيقتاد من يده إلى محل ضرب الأعناق، وأنت تراه أمرد قد طر شاربه ولم تنبت لحيته! فيوقف كما أوقف من قبله فيضرب عنقه اللين فيتناثر الدم ويقع هو على أكوام الرجال الذين قبله، وهكذا حتى يكتمل العدد واحداً واحداً وفيهم الشاب، والكبير، والسيد الشريف، والدنيء الحقير.

عن عطية القرظي قال : “كنت في الذين حكم فيهم سعد بن معاذ فقربت لأقتل فانتزع رجل من القوم إزاري فرأوني لم أنبت الشعر فألقيت في السبي” رواه أبو داود والنسائي والترمذي بألفاظ متقاربة.

فعندما نستحضر القصة أو شيئا منها بمثل هذا المشهد ستجد في نفسك مشاعر دفينة، وتستثير كوامن مجهولة لن تدركها ولن تستشعرها وأنت تقرأ فقط أن سعداً رضي الله عنه قد حكم بأن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم، فقتل منهم كذا وكذا ثم تتجاوز الحادثة بلمح البصر، وربما يكون ذهنك أثناء بلوغك تلك العبارة ذاهلاً كما يقع كثيراً أثناء المطالعة، فكم في حدثٍ بهذا الضخامة والجسامة (قتل أكثر من أربعمائة رجل) من الحركات والسكنات، والمشاعر والكلمات، والازدحام والتدافع، والتمتمة والصياح، والتيقظ والانتباه، والتعنّت والاستسلام، والتصبر والذعر، والتجلد والارتجاف مما لا يخلو منه مثله.

ولأن مثل هذه القضايا وغيرها من متعلقات سياسة الدول وضبطها تحتاج إلى قوة قلبٍ وشدة حزمٍ ومضاءِ عزمٍ اشترط العلماء في الإمام العام أن يكون قوياً جريئاً في إنفاذ الحق وإقامته حتى لا يضطرب في مواطن الملمات ولا يرتبك عند حلول المدلهمات، فتمتزج العاطفة اللينة مع الخور الرخو الخفي فيُخرج مسخاً من الرأي يُحدِث في الإسلام خرقاً لا يرتق فتقه، ولا تسد ثلمته، ويوقع الأمة في آلامٍ ومآسٍ ومعاناة ومقاساةٍ تفوق ما أراد تفاديه (برفقه الخادع) أضعافاً مضاعفة، وهذا لا يعني أن يكون جباراً عنيداً ولا شيطاناً مريداً لا تعرف الرحمة إلى قلبه سبيلاً، ولا اللين إلى نفسه مدخلاً، فخير الأمور أوسطها وشرها أطرافها، والفضائل تحيط بها الرذائل فمن تعداها وقع فيها، وكما يروى عن عمر -رضي الله عنه- أنه قال: “لا ينبغي أن يلي هذا الأمر -يعني أمر الناس- إلا رجل فيه أربع خلال: اللين في غير ضعف، والشدة في غير عنف، والإمساك في غير بخل، والسماحة في غير سرف، فإن سقطت واحدة منهن فسدت الثلاث اهـ

واستطراداً أنقل هنا كلاماً للإمام الشوكاني في كتابه السيل وذلك لجماله وإحكامه قال رحمه الله : [لا بد أن يكون مع الإمام من قوة القلب وشدة البأس ما يحمله على مناجزة الأعداء ومثاغرة الخارجين على الإسلام، فإن كان من الجبن بمكان يمنعه عن ذلك فقد أصيب بسبب هذه الغريزة التي يبغضها الله بفقدان أعظم المقاصد من إمامته؛ لأنه يتنكب عن مواطن القتال ويضعف عن مصابرة النزال، فيسري جبنه إلى غيره وتعم بذلك البلوى ويتسلط على المسلمين الأعداء، ومع هذا فقد يحمله جبنه وضعف قلبه على عدم إقامة الحدود والقصاص والتنكيل بمن سعى في الأرض فساداً وضرب أعناق من أوجب الشرع ذلك عليه وإن كانوا عدداً جماً، فمن كان معروفا بهذه الغريزة لا يجوز لأهل الحل والعقد أن يبايعوه، وإذا ابتلوا بمبايعته فلا يجوز لهم أن يتابعوه في فشله وجبنه بل يقيمونه ويقومون معه، فإن قعوده عن الحرب في الوقت الذي تحق فيه الحرب يفضي بالمسلمين إلى الضرر العظيم في أبدانهم وأموالهم وحرمهم.]اهـ

وتأمل في حادثة مقتل محمد الدرة على أيدي الجنود اليهود وهو يحتمي بوالده عندما شاهدها العالم كيف استخرجت رحمات القلوب، وأثارت الكوامن، وحرّكت الناس في المظاهرات، وصيغت فيها القصائد المتنوعة، وارتجت بها المنابر، وذرفت العيون، وتسلق عليها المتسلقون، وسميت باسمه المؤسسات، وهي حادثة يتكرر نظائرها بل وبصور أبشع منها في بقاع متعددة من بلدان المسلمين بل حتى في فلسطين نفسها، ولكن لا تبلغ عشر معشار ما بلغته هذه الحادثة من التأثير والإثارة ولا من الاهتمام والعناية، وذلك لأنها تمر في وسائل الإعلام مروراً عابراً يُعلَم فيه بمقتل طفلٍ أو حتى أطفال في قصفٍ صاروخي، أو برصاص قناصة، أو غير ذلك، وربما يسمعها المرء وهو يتجشأ على قصعته وكأن شيئاً لم يكن، وحقاً ليس الخبر كالمعاينة، ومع ذلك ينبغي للمرء أن يقرّب ذهنه من المعاينة والمشاهدة، ويعيش مع الأحداث وكأنه في وسطها بل ومشاركٌ فيها لينتفع بها ويتعوذ بالله من موت القلب.

وهذا كله على سبيل الاجتهاد في الاستحضار والانتقال بالذهن إلى تفاصيل الأحداث، وذلك يدني الحقيقة من المرء، وهو ما يجعل الإنسان يدرك أن الكينونة بين الحقائق والانغماس في الوقائع والدخول في الممارسات العملية، وولوج جزئياتها بحسب الطاقات البشرية يختلف تمام الاختلاف عن مجرد تصورها -ولو بتفاصيلها -.

ثانياً : إذاً فما ننبه عليه دائماً وهو كما ذكرته في أول الأمر، للاستفادة من أحداث السيرة، هو أن لا ننظر إلى مجرد الصور والهيئات ونجمد عليها، فنحرم أنفسنا علماً جماً وفهماً نافعاً، وإنما علينا أن نغوص في المعاني والحقائق التي عليها المدار، وهي التي لا تكاد تختلف مهما تباعدت الأزمان، وتقلبت الأحوال، ففي هذه الحادثة عندما تقارن بين بني قريظة وأمريكا (منبع الشر)، فلا تقصر ذهنك أيها القارئ على تصور الحال فقط على أنها حصن أو حصون مشيدة بداخلها عددٌ من الرجال والنساء والأطفال نقضوا العهد وجاهروا بالعداوة، حتى إذا التفتَّ إلى أمريكا رأيت (دولة) قد فتح الله عليها أبواب كل شيء، وبلغت الغاية من التقدم والتقنيات وعلوم الإدارة والتفنن في السياسات وغير ذلك، فيرجع نظرك حسيراً إذ لا تجد أدنى مناسبة -بحسب الظاهر – بين أولئك وهؤلاء، فأين بضعة مئات، من مئات الملايين، وكيف تقارَن حصونٌ مشيّدة على رقعة صغيرة بدولة مترامية الأطراف واسعة الأرجاء، وكيف يُجعَلُ حكمٌ غابر بدائي يقوم على رأي السادة والأشراف بنظامٍ عصري متحضر يقوم على التناوب على السلطة وإعطاء الشعب حقه في التعبير والتغيير، فلا تقارن العَدَد بالعَدَد، ولا الخيل بالطائرة، ولا الجمل بالسيارة، ولا الحصن بالبيت الأبيض، ولا السهم بالطلقة، ولا الجبة (بالكرافيت)، ولا الملتحي بالحليق، ولا السبَّ من فوق الأسوار بالسب والشتم عبر مكبرات الصوت أو وسائل الإعلام، نعم! هكذا سيصبح المرء حائراً إن وقف عند الأسوار والحيطان والجدران، والبساتين، والأعداد، ورؤوس القبيلة، والخيل والسيف والرماح والتروس! أما إذا تجاوز ذلك كله، ليخلص إلى لب الأمر وجوهره، ليقْرِن بين الغدر والغدر، والنقض والنقض، والقتل والقتل، والطعن والطعن، والمظاهرة والمظاهرة، والمحاربة والمحاربة، والإجرام والإجرام وهلمّ جرا من الأفعال والأوصاف التي لا تتبدل ولا تتغير -فسيرى أن تلك الحقيقة الخافتة المستترة وراء التاريخ الغابر لا تتجاوز أن تكون شعباً (بني قريظة) يقيمون على أرضٍ (جنوبي شرق المدينة)، وتحصنوا بداخلها (حدود دولتهم)، لهم قادتهم ورؤساؤهم (كعب بن أسد ومجلس شيوخه)، الذين يسوسونهم ويقودونهم (بنظام حكمٍ)، قد تواطؤوا على نقض العهد ومظاهرة الأحزاب على المسلمين، فاستحقوا جميعاً (حكومة وشعباً) أن تحل عليهم العقوبة (القتل والسبي وغنم الأموال) بسبب ذلك، فعامل النبي صلى الله عليه وسلم هذا (الكيان) باعتباره شيئاً واحداً من حيث سبب ما عوقبوا لأجله حتى بعدَ أن صاروا مقدوراً عليهم (نزولهم على حكم سعد)، فأنزِلْ أمريكا منزلة كل صفة من هذه الصفات لتدرك أن الأمر لا يغيّره حاملات طائرات، ولا عابرات قارات، ولا أقمار صناعية، ولا أجهزة متطورة، ولا عمارات شاهقة، ولا أنظمة دقيقة، ولا سياسات عصرية، ولا حضارة مزعومة بل الأمر هو هو لا ينقضه كثرة عدد، ولا تفوق عُدَد، ولا اتساع أرضٍ، ولا القرن العشرون ولا الروم ذات القرون!، فكلهم قرظيون إلا من أسلم فَسلِم.

ثالثاً : من المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما قَدِم المدينة قد عاهد اليهود بطوائفهم الثلاثة : بني النضير، وبني قريظة، وبني قينقاع، وهو أمرٌ لا يختلف فيه أهل السير، فلم يزل بنو قريظة على عهدهم وعقدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءت وقعة الأحزاب فدلاّهم أحد الأشرار بالغرور، وهو حيي بن أخطب، ومنّاهم وأمّلهم وأغراهم وأغواهم حتى نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم كما روى القصة الإمام البيهقي مطولة وفيها : “وخرج حيى بن أخطب حتى أتى كعب بن أسد صاحب عقد بني قريظة وعهدهم، فلما سمع به كعب أغلق حصنه دونه فقال : ويحك يا كعب افتح لي حتى أدخل عليك! فقال: ويحك يا حيي إنك امرؤ مشئوم! وإنه لا حاجة لي بك ولا بما جئتني به، إني لم أر من محمد إلا صدقاً ووفاء، وقد وادعني ووادعته فدعني وارجع عني…قال له : ويحك يا كعب جئتك بعز الدهر بقريش معها قادتها حتى أنزلتها برومة وجئتك بغطفان على قادتها وسادتها حتى أنزلتها إلى جانب أحد جئتك ببحر طام لا يرده شيء فقال : جئتني والله بالذل ويلك فدعني وما أنا عليه فإنه لا حاجة لي بك ولا بما تدعوني إليه، فلم يزل حيى بن أخطب يفتله فى الذروة والغارب حتى أطاع له، وأعطاه حيي العهد والميثاق لئن رجعت قريش وغطفان قبل أن يصيبوا محمدا لأدخلن معك فى حصنك حتى يصيبني ما أصابك، فنقض كعب العهد وأظهر البراءة من رسول الله – صلى الله عليه وسلم- وما كان بينه وبينه.”

هكذا كان حال بني قريظة قبل العقد وبعده حتى ذاقوا وبال أمرهم وأحاطت بهم خطيئتهم وحاق بهم ما كانوا يكسبون، أما أمريكا (منبع الشر) فلم يقع بينها وبين المسلمين يوماً من الأيام عقد ولا عهدٌ أصلاً، بل هي حربٌ عليهم قولاً وفعلاً منذ قيامها، إخراجاً من ديارهم، ومظاهرة لمن يخرجهم، وقتالاً لهم في عقر ديارهم، وتشريداً لشعوبهم، وارتكاباً لأبشع الجرائم في حقهم، وأسر رجالهم ونسائهم، وقطع البحار والقفار لتقتيل شيوخهم وأطفالهم وضعفائهم وخطف خيارهم، فهي قد جمعت أركان الحرب الثلاثة التي ذكرها الله تعالى في قوله:{إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[الممتحنة/۹]، القتال في الدين، والإخراج من الديار، والمظاهرة على الإخراج.

وإن تعجب فعجبٌ من إناسٍ يحتاجون إلى برهنة مثل هذه الأمور التي تنطق من غير استنطاق، وتسفر من غير استفسار، ولكن: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}[الحج/۴۶]، فلا تكاد اليوم تجد دم مسلمٍ يهراق في الأرض على أيدي الكفرة إلا وكان لأمريكا كفلٌ منه.

إذاً فلا يشك أحدٌ وبالنظر إلى ما ترتكبه أمريكا -حتى على افتراض أن بينها وبين المسلمين العقود المؤكَّدة والعهود المغلظة – ومقارنته بجريمة بني قريظة كفعلٍ مجرّدٍ من غير اعتبار كونها وقعت في حق خير البشر صلى الله عليه وسلم، فإن جرائم (منبع الشر) تفوق ما اقترفه اليهود بأضعافٍ مضاعفة، بل لا تكاد النسبة تذكر أصلاً، حتى ولو وازنتها بجريمة دعمهم الدائم والمستمر والمفتوح لأحفاد القرظيين المحتلين لفلسطين المسلمة عقوداً طويلة لفاقتها بمراحل طويلة فكيف إذا انضافت إليها كل جرائمهم الفظيعة المتواصلة الممتدة في بلاد المسلمين كافة والتي اشتملت جبهات عديدة عسكرية، وإعلامية (الطعن في الدين)، وأخلاقية، وعقائدية.

رابعاً: سجّل لنا القرآن شيئاً من جرائم بني قريظة التي كانت سبباً في استحقاقهم تلك العقوبة المغلّظة ألا وهي مظاهرتهم للأحزاب التي زحفت على المدينة، فقال تعالى : {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ}[الأحزاب/۲۶]، وهذه المظاهرة إنما كانت بما وعدوا به أبا سفيان قائد الأحزاب من الإعانة والمؤازرة بعد نقضهم للعهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يظهر -من خلال كتب السيرة- أنهم ساعدوا الأحزاب بمالٍ ولا برجالٍ ولا بقتالٍ، وإنما أشارت بعض كتب التفسير إلى أنهم أمدوهم بالسلاح والأدرع، ولم يخرجوا بعد نقضهم للعهد من حصونهم، ولم ينضموا إلى جموع الأحزاب بأنفسهم ويشاركوهم في حصارهم، فكل ما حصل منهم – أخزاهم الله- هو نقضهم للعهد في وقت عصيبٍٍ على المسلمين ثم وعْدُهم للأحزاب بإعانتهم، بل إن الأحزاب نفسها والتي آزروها وأعانوها لم يقع بينها وبين النبي صلى الله عليه وسلم قتالٌ يذكر وإنما هي بعض المناوشات، فكانت بنو قريظة عوناً لهم في إرعاب المسلمين، وزيادة الشدة والكرب عليهم، والخوف على نسائهم وذراريهم، حتى قال بعض أهل العلم إنهم هم الذين جاءوا من فوقهم في قوله تعالى : {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ}[الأحزاب/۱۰]، ومجمع القول أن بني قريظة لما نكثوا عهدهم في وقتٍ بلغت فيه المحنة أقصاها وتحيّنوا تلك الفرصة ظانين أنها سانحة لاستئصال المسلمين، وواعدوا الأحزاب المتألبة بالإعانة، فنتج عن ذلك ازدياد المحنة وتضاعف الزلزلة وتعاظم البلاء كانوا بذلك مظاهرين لجموع الأحزاب – مع أن الأحزاب رجعوا بغير قتالٍ – فاستحقت قريظة تلك العقوبة الشديدة : {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا ۝ وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا}[الأحزاب/۲۶، ۲۷] والجزاء من جنس العمل كما قال الإمام ابن كثير – رحمه الله – : “(وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) : وهو الخوف؛ لأنهم كانوا مالؤوا المشركين على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس مَنْ يعلم كمن لا يعلم، فأخافوا المسلمين وراموا قتلهم ليَعزّوا في الدنيا، فانعكس عليهم الحال، وانقلب الفال، انشمر المشركون ففازوا بصفقة المغبون، فكما راموا العز ذلوا، وأرادوا استئصال المسلمين فاستؤصلوا، وأضيف إلى ذلك شقاوة الآخرة، فصارت الجملة أن هذه هي الصفقة الخاسرة”اهـ.

ومما غلظ العقوبة في حقهم أيضاً إلفهم لنقض العهود واعتيادهم له كما قال تعالى فيهم : {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ۝ الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ ۝ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأنفال/۵۵-۵۷]، قال ابن عطية : “وأجمع المتأولون أن الآية نزلت في بني قريظة وهي بعدُ تعم كل من اتصف بهذه الصفة إلى يوم القيامة”اهـ.

تلك هي مظاهرة بني قريظة للأحزاب، أما أمريكا (منبع الشر) فإنها مظاهَرة معانة ومظاهِرة معينة، فهي من جهة تقود الأحزاب وجموع أحلاف الكفر المحتلة لبلاد المسلمين في العراق وأفغانستان بجيوشٍ جرارة وأسلحة مدمّرة وحروب قذرة، فهي هنا القائدة المتبوعة المترأسة المتقدِّمة لأحلافها، وكل الدول الكافرة المقاتلة معها إنما هي تحت لوائها وتابعة و(مظاهِرة) لها، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فهي التي تتولى أمر القيام على ربيبتها ردغة الخبال دويلة إسرائيل بدعمٍ مطلقٍ، ومساندة تامة، وتعهدٍ مؤبد، وإعانة مفتوحةٍ، ومظاهرةٍ دائمة عسكرياً وأمنياً ومالياً واقتصادياً وسياسياً، بل يصرح ساستها ليلاً ونهاراً على رؤوس الأشهاد وفي المحافل الكبرى بأن أمنهم مرتبطٌ ارتباطاً مباشراً بأمن إسرائيل، وأن أي اعتداء على إسرائيل هو اعتداءٌ عليهم، أي أن إسرائيل أصبحت جزءاً من جسمهم وقطعة من لحمهم، فهي مظاهَرة تصرخ بنفسها، وهذا يعني أن كل جريمةَ قتلٍ أو نهب أو أسرٍ أو خطفٍ أو تجريفٍ أو تدميرٍ أو تحريقٍ أو توطينٍ يقوم بها يهودي من المحتلين لفلسطين فإن أمريكا (حكومةً وشعباً) مشاركةٌ مشاركةً مباشرةً فيها، وتلقى عليها تبعة ذلك تماماً كما تلقى على كيان اليهود الغاصب سواء بسواء حذو القذة بالقذة، فساسة أمريكا يؤكدون بأفعالهم وأقوالهم بأن إسرائيل هي أمريكا وأمريكا هي إسرائيل، فلا أدري لم يكلف بعض الناس أنفسهم عَنَتاً فيبحثون عن مخارج تبرئ منبع الشر أو تحجم من جريمتها ومن ثَم تخفف في حقها العقوبة التي يستبيحون تغليظها في حق دويلة اليهود والتي لا بقاء لها ولا استمرار إلا بحبل الناس وسيل الدعم الذي يتدفق عليها من أمريكا وأخواتها سخاءً رخاء؟!، ولا ندري ما الذي يجعل لقاء (ليفني) جريمةً يتورَّع عنها بعض ساسة العرب المخذولين -ولو أمام وسائل الإعلام- بينما يتهافتون بلهفٍ ولهث على الارتماء أمام عنكبوتة البيت الأبيض رايز، أو خليفتها الخرقاء هيلري، فيعدّونه شرفاً، ولا يراه غيرهم منكراً ولا إجراماً، وكأن يد الأولى ملطخة بالدماء أما أيدي هاتين قد تزينت بالحناء، وقد كانت هؤلاء أخس من أن أشوّه المقالَ بذكر أسمائهنّ ولكنَّ المضطر معذور!

خامساً : كما ذكرتُ من قبلُ فإن يهود بني قريظة-أخزاهم الله- لم يخرجوا بجيوشهم وحشودهم من صياصيهم ليغزوا المدينة، أو يكونوا جنباً إلى جنبٍ مع جموع الأحزاب المحاصرة لها، وإنما نقضوا عهدهم ووعدوا المشركين بإعانتهم، فانقضت الحرب وولت الأحزاب وهم على ذلك لم يزيدوا شيئاً، ومع ذلك فإن جبريل عليه السلام ومن معه من الملائكة لم يضعوا أسلحتهم بعد قفول الأحزاب خائبة، بل بادروا إلى حصن بني قريظة قبل أن ينفضوا عنهم الغبار لقذف الرعب في قلوبهم، وحثَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم على المسارعة في ذلك، فقام إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مُجِدّاً وعزم على أصحابه أن لا يصلوا العصر إلا في بني قريظة، ومعنى هذا أن نقض هؤلاء اليهود للعقد زيادة على ما تعهّدوا به من المناصرة للأحزاب استوجب أن تستنفر لهم الملائكة وتنهض لهم جموع المؤمنين وعلى رأسهم رسول الله صلى الله وعليه وسلم ويغزوهم في عقر دارهم، ويحاصروا حصونهم، ولا شك أن بني قريظة قد انخزلوا بعدما ولت عنهم الأحزاب وقذف الله في قلوبهم الرعب، ولم يعد خطرهم كما كان وقت حصار المدينة، بحيث لو تركوا لن يكون منهم عظيم خطرٍ على المدينة وأهلها، فما نزل بهم من عظيم النكال كان على جريمة قد انقضى بعضها وهو تحالفهم مع الأحزاب ولم يبق مما يتلبسون به إلا نقضهم للعهد.

أما أمريكا (منبع الشر) فإنها هي التي قصدت المسلمين في عقر دارهم، وداهمت بجيوشها الجرارة بلادهم، واستباحت بحارهم وأجواءهم وأراضيهم وحرماتهم، وتسلطت على المسلمين بأنواعٍ فظيعة من التنكيل والتقتيل والتعذيب والتدمير فأحلتهم دار البوار، فهي التي تحاصرهم وتطاردهم وتأسرهم وتهجّرهم وترعبهم وتنهب خيراتهم وتجوّع شعوبهم وتبيدهم، بحيث أصبح شرها وفسادها لا يسلم منه بلدٌ ولا يكاد يشذ عنه بيت، بل عمَّ حتى إخوانهم في ملة الكفر فقتلت منهم الملايين، وأبادت مدناً بكاملها، وهي لا تنفك لحظة عن التلبس بهذه الجرائم بل تتعاظم وتتفاقم يوماً بعد يوم، وهذه الأفعال والجرائم والفظائع واضحة للعيان يعاني مرارتها كل مسلمٍ، فلا يموه عليها ولا يغطيها أو يلغيها خطابات رؤسائهم الخاوية، ولا تضليلاتهم الإعلامية السخيفة، ولا دعايات إنسانيتهم وحضارتهم الخادعة، ولا يكفّرها عقد ولائم إفطار رمضان في البيت الأبيض، ولا يمحوها وضع المصحف الشريف في مكتبته، ولا زيارة المساجد وحملقة العيون في زخارفها ونقوشها، ولا يشفع لها اعتذارٌ سخيف هو أقرب إلى الاستهزاء والسخرية كلما قتل عددٌ من عوام المسلمين، وحيث كنت أكتب هذا المقال وقعت المجزرة الصليبية التي ارتكبت في حق عدد من المسلمين جَنوبِيَّ أفغانستان يوم الإثنين ۸/ربيع الأول/۱۴۳۱هـ وقتل فيها -حسب اعترافهم ولا شك أن العدد مقلّصٌ- أكثر من ثلاثة وثلاثين مسلماً بينهم كثيرٌ من النساء والأطفال، فلم تستحق من مجرم الحرب رئيس هيئة الأركان الأمريكية إلا (الأسف) على الحادث وليس الاعتذار، وكأنهم ذبابٌ رش بمبيد حشري فَلِم الأسى عليهم إذاً؟!، فتباً لهم ولاعتذاراتهم التي لا تخدِّر وتسكّن إلا البلهاء أصحاب القلوب الميتة والعقول البليدة.

فكل هذه (السواتر المموِّهة) لا ترفع الحقيقة الثابتة الراسخة من كون أمريكا قد أجلبت على بلدان المسلمين بكل قوتها، ودخلت ديارهم محتلةً لها ومتغلِّبة عليها وقاهرة لأهلها، وأطلقت العِنان لجنودها المتوحشين يسفكون الدماء، ويختطفون الرجال والنساء، وينتهكون الأعراض، وينهبون الأموال، ويطعنون في الدين، ويلطخون المصحف الكريم بنجاساتهم القذرة وفي وسط ديار المسلمين، ويسعون في الأرض فساداً، فلو قارنا هذه الجرائم – وغيرها كثير- بجريمة يهود بني قريظة والتي استحقوا بها أن يُغزَوا في عقر دارهم وتحاصر بسببها حصونهم ويُسارَع لإنزال العقوبة البليغة بهم لرأينا البون شاسعاً والتفاوت كبيراً جداً، إلا أن جريمة بني قريظة تعظم بالنظر إلى كونها متعلقة بالنبي صلى الله عليه وسلم ودولته الناشئة التي إن قضي عليها فلن يعبد الله في الأرض.

والمقصود أن أمريكا (منبع الشر) وقد اقترفت ولا تزال تقترف من الجرائم ما يشيب لهوله الولدان، وتكد وتجد لاصطلام الإسلام، خليقة بأن تغزى في عقر دارها، ويُبادر بالاستنفار إليها والمسارعة لقتالها لدفعها وردعها، وقطع مادة شرها وليس لمجرد عقوبتها على ما ارتكبته من جرائم سلفت ومضت كما هو الحال مع يهود بني قريظة.

سادساً : حاصر النبي صلى الله عليه وسلم حصون بني قريظة، وناوشهم حتى نزلوا على حكم سعد بن معاذ، فأسلموا بذلك أنفسهم وأموالهم، ورضوا بأن يجري عليهم ما يقضيه فيهم، وهذا يعني أنهم صاروا مقدوراً عليهم من قبل المسلمين وفي قبضتهم وتحت يدهم، فحكم فيهم سعدٌ رضي الله عنه بما حكَمَ، فقسمهم إلى فريقين: مقاتِلة وهم كل بالغٍ من الرجال، وسبي وهم النساء والصبيان، فحكم بقتل الفريق الأول جميعاً، واستبقى الفريق الثاني ليكونوا للمؤمنين، كما قال الإمام ابن حزمٍ رحمه الله في قتل بني قريظة : ” فَهَذَا عُمُومٌ مِنْ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – لَمْ يَسْتَبْقِ مِنْهُمْ عَسِيفًا، وَلا تَاجِرًا، وَلا فَلاحًا، وَلا شَيْخًا كَبِيرًا، وَهَذَا إجْمَاعٌ صَحِيحٌ مِنْهُمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مُتَيَقَّنٌ؛ لأَنَّهُمْ فِي عَرَضٍ مِنْ أَعْرَاضِ الْمَدِينَةِ لَمْ يَخْفَ ذَلِكَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَهْلِهَا.”

هذا وبعد استسلامهم للحكم، ووقوعهم في القبضة، لم يستفسر النبي صلى الله عليه وسلم لا رجالهم ولا نساءهم ولا ذراريهم ليعرف من منهم كان راضياً بنقض العهد ودعم الأحزاب ممن لم يكن كذلك، مع القدرة التامة على ذلك، لانحصار عددهم أولاً، ولتمكنه منهم ثانياً مع ما عرف عنه صلى الله عليه وسلم من بالغ الرحمة وحب العفو والمبادرة إلى الصفح، بل إن الأوس -وكانوا حلفاء لبني قريظة- قد طلبوا منه استبقاءهم أسوةً ببني قينقاع، ثم لما حكَّم فيهم رجلاً منهم وهو سيدهم سعد بن معاذ لم يزالوا يستعطفونه ويلحون عليه في الترفق بهم والتحنن عليهم إلا أن الأمر كان خلاف ما أرادوا وطلبوا وكان أمر الله قدرا مقدورا.

وقد كان يمكن أن يبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض رجالهم أو شبابهم من غير أن يقع أي ضررٍ من وراء استبقائهم، ولهذا لما استئذنه بعض الصحابة وهو ثابت بن قيس بأن يهبه الزبير بن باطا اليهودي وكان ضمن الأسرى وهبه له صلى الله عليه وسلم إلا أن اللعين اختار القتل واللحوق بأصحابه وأحبابه والاجتماع بهم! فضربت عنقه بعدها مع أنه كان أعمى فاجتمع بهم! ولكن في نار جهنم وبئس المصير. كما جاء في بعض كتب السيرة.

وفي هذا أكبر ردٍّ على من يزعم أن قتل الأسير إنما يجوز فقط لدفع ضرره، ولهذه المسألة موضع آخر وليست مقصودة هنا، ولم يستثنِ النبي صلى الله عليه وسلم إلا بعض مَن جاءه مسلماً كثعلبة وأسيد ابني سعية وأسد بن عبيد من بني عمومتهم، أو نأى بنفسه وانفصل عنهم ولم يرضَ بغدرهم كعمرو بن سعدي كما جاء في بعض كتب السيرة.

والمقصود أن نقض السادة والقادة للعهد وبقاء أتباعهم تحت سلطانهم مع تمكنهم من الانفصال والانعزال وإعلان البراءة مما اقترفوه جعل الجميع يجري عليهم موجب تلك الجريمة إما القتل وإما السبي، فالتثبت من كون كل واحدٍ منهم ليس موافقاً لهم أو راضياً لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم بل اكتفى بوجود النقض مع عدم البراءة منه فسرى بذلك الحكم على الكل رجالا ونساء وشبابا وشيوخاً وأطفالاً واستحق كلٌ منهم ما يناسبه من تبعات ذلك النقض بعد أن ذهبت ذمتهم مع غدر قادتهم وساستهم، وقريبٌ من هذا إن لم يكن عينه ما حصل لقريش عندما قاتل بعض بني بكرٍ حلفائها خزاعةَ وهم حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم فانتقض عهد الجميع وعزم النبي صلى الله عليه وسلم على غزوهم سراً ودعا الله أن يعمي عنه ولم يحتج الأمر إلى أن ينبذ إليهم على سواء، وهذا كما قال العلامة ابن القيم -رحمه الله- : “وكان هديه صلى الله عليه وسلم أنه إذا صالح قوماً فنقض بعضهم عهده، وصلحه، وأقرهم الباقون، ورضوا به، غزا الجميع، وجعلهم كلهم ناقضين، كما فعل بقريظة، والنضير، وبني قينقاع، وكما فعل فى أهل مكة، فهذه سنته فى أهل العهد”اهـ، بل أجرى هذا الحكم حتى في أهل الذمة الذين يعد عقدهم أغلظ وذمتهم أشد وأوكد، وله في ذلك فتوى خاصة في حادثة وقعت زمنه -رحمه الله- فقال : “وبهذا القول أفتينا ولي الأمر لما أحرقت النصارى أموال المسلمين بالشام ودورهم، وراموا إحراق جامعهم الأعظم حتى أحرقوا منارته، وكاد لولا دفع الله أن يحترق كله، وعلم بذلك من علم من النصارى، وواطؤوا عليه وأقروه، ورضوا به، ولم يُعلِموا ولي الأمر، فاستفتى فيهم ولي الأمر من حضره من الفقهاء، فأفتيناه بانتقاض عهد من فعل ذلك، وأعان عليه بوجه من الوجوه، أو رضي به، وأقر عليه”اهـ، وكذلك أفتى شيخه أبو العباس -رحمه الله- في حادثة أخرى كما نقلها عنه فقال : “وبهذا أفتى شيخ الإسلام ابن تيمية بغزو نصارى المشرق لما أعانوا عدو المسلمين على قتالهم، فأمدوهم بالمال والسلاح، وإن كانوا لم يغزونا ولم يحاربونا، ورآهم بذلك ناقضين للعهد، كما نقضت قريش عهدَ النبي صلى الله عليه وسلم بإعانتهم بني بكر بن وائل على حرب حلفائه، فكيف إذا أعان أهل الذمة المشركين على حرب المسلمين”اهـ

وحقُّ هذه الفتوى والتي قبلها أن تكون في الكلام السابق المتعلق بمظاهرة أمريكا لإسرائيل وحكومات الطغيان في العالم الإسلامي لنعلم كم من المساجد -وليس مجرد المآذن- التي دكتها طائراتها، وأحرقتها حممها، وكم من الأجساد الطاهرة التي أذابتها صورايخها وتبخرت مع دخانها فلم يبق لها أثرٌ ولا عين، وهي تُمِد بالسلاح والخبراء والخبرات وتمارس القتل البشع في نفس الوقت وفي كل وقتٍ أيضاً، مع استحضار أن مَن يتحدث عنهم الإمامان هم قومٌ كان بينهم وبين المسلمين عهدٌ فانتقض بما ذكروه، أما أمريكا (منبع الشر) فإن القول بأن بينها وبين (الدول الإسلامية!) عقدٌ تولاه (ولي الأمر) فما هو إلا ضربٌ من الهوس والوسوسة التي يستعاذ بالله من شرّها وشرِّ نفّاثيها.

والعجيب أن أمريكا نفسها تأبى عن وصفها بكونها معاهدة لتلك الدويلات، وتأنف من معاملتها لها كالند للند، ولا ترضى إلا بأن تكون الأستاذ وما سواها تلامذتها، بل هي السيدة وما عداها عبيدٌ، والأقبح من هذا ما تفتقت عنه بعض العقول المُقْعَدة أو المشلولة بجعلها أمريكا بقواعدها العسكرية وقواتها الحربية أهلَ ذِمةٍ، ولا ندري كم مقدار الجزية التي فُرض عليهم دفعها لولي الأمر ليعطوها له عن يدٍ وهم صاغرون! فهكذا يصنع استمراء الذل والرضى بالهون والتثاقل إلى الأرض ولا حول ولا قوة إلا بالله، فعلى الإسلام وأحكامه فلتبك البواكي.

وأمريكا (منبع الشر) تزعم أنها رائدة النظام الديمقراطي في العالم، وهي تتباهى به وأحرقت الأخضر واليابس كرماً منها وإحساناً! للشعوب المغلوبة على أمرها حتى تستظل بنعيمه، وذلك النظام يقوم على أساس حكم الشعب لنفسه، فهم الذين ينتخبون رئيسهم الذي يتولى أمرهم، ويسوس البلاد باسمهم، ويتخذ قرارات السلم والحرب نيابة عنهم وتعبيراً عن إرادتهم، ويصرح بذلك في حملاته الانتخابية، ويعلن بأنه سيزيد عدد قواته المحتلة لبلاد المسلمين، وهم يصفقون له ويهتفون باسمه، وهذه الأمور كلها تعبير صريح عن الرضى والمساندة والدعم لما يحصل على أيدي جنودهم من الجرائم في حق المسلمين، هذا لو كانت جريمتهم قاصرة على نقض عهدٍ بينهم وبين المسلمين، فكيف وهذا العقد لم يقم يوماً من الأيام، وإنما لم تزل هذه الدولة الخبيثة تتوارث الإجرام حكومة بعد حكومةٍ، وتقذف بشررها المستطير على بلدان المسلمين حقبة بعد حقبة، حتى جعلتها كهيكل عظمي أجرد بعد أن نهبت خيراتها وسلبت إرادة شعوبها، كل ذلك وشعبها ينتخب أكابر مجرميها ويؤيدهم ويساندهم فإذا مسه شيء من الضر وتكدَّرت عليه شهواته تراجع قليلاً حتى إذا خفَّ أو تلاشى أعاد كرة تأييده لسفّاحٍ جديد، وهكذا دواليك، فهل أصبحت شعوب المسلمين وبلدانهم حقل تجارب يتنافس السفاحون عبرها ليزيدوا رصيد تأييد شعوبهم كلما ملوهم وضجروا منهم؟!

فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يستفصل من بني قريظة فرداً فرداً ليعلم من كان راضياً منهم ممن لم يكن كذلك مع إمكانية ذلك بلا شك لأنهم قُتِلوا واحداً واحداً، وما أيسر سؤاله وهو واقفٌ بين يدي السيّاف لو أراد، فكيف يطالَب المجاهدون بأن يعرفوا حال كل فردٍ في شعب قد بلغ تعداده مئات الملايين مع امتناعهم وتحصنهم في (صياصيهم) والتي يمارسون من وراء أسوارها وبحارها حروب الإبادة وينطلقون من داخلها لغزو بلدان المسلمين واستباحة حرماتهم.

هذا ولا يفهم مما ذكرته هنا أن أمريكا لا تستحق القتال والنزال والغزو في عقر الدار إلا بسبب الجرائم التي اقترفتها وتقترفها ضد المسلمين مما ذكرته وما لم أذكره فقط، فإن جهاد الكفار وغزوهم في عقر دارهم (جهاد الطلب) شرعٌ محكم وفريضة ماضية لا يبطله لوثات أفكار الانهزام المتولدة في هذا العصر، ولا التحيل في كسر أعناق النصوص حتى تقود إلى تلك النتيجة الخداج، وإنما المقصود الإشارة والمقارنة بين جريمة القرظيين التي نزلت بسببها تلك العقوبة الماحقة عليهم، وبين جرائم دولة الظلم والبغي والشر التي ملأت الأرض بطراً وفساداً وكفراً وعناداً لتنزل عليها العقوبات الملائمة لتلك الفظائع، ولتزول الغشاوة عن أعين الكثير ممن لم يزل مضطرباً في بحر الحيرة والتردد فيتخذ موقعه في هذه المعركة التي هي معركة الإسلام: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [الحج/۶۰]

والحمد لله رب العالمين

وكتبه : أبو يحيى الليبي(حسن قائد)

الأربعاء ۱۰/ ربيع الأول/ ۱۴۳۱ه

۱۴۳۱هـ ~ ۲۰۱۰م

دیدگاهتان را بنویسید

نشانی ایمیل شما منتشر نخواهد شد. بخش‌های موردنیاز علامت‌گذاری شده‌اند *