مقاصد الجهاد وأنواعه
بسم الله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد…
فإن الجهاد في سبيل الله شرَعه الله تعالى لِتكون كلمة الله هي العليا، ولِيعبد الله وحده لا شريك له، ولِينصر به الإسلام والمسلمون.
فالجهاد؛ ضرورةٌ لحماية الإسلام وإقامة شريعته في الأرض، وبتركه يتسلّط الأعداءُ على الأمة ويزيلون شرع الله ويستحلّون بلاد الإسلام.
فلهذا؛ فالجهاد في سبيل الله أصلٌ مصاحبٌ لشريعة القرآن، فينصر شريعة القرآن ويقيم دولته… ثم يقوم بحمايتها.
وليس الجهاد حكماً طارئاً – كما يدعيه البعض – بل هو مصاحبٌ لدولة الإسلام في الأرض، وهو دائمٌ إلى قيام الساعة، وهو من أبرز صفات الطائفة الناجية المنصورة – أهل السنة والجماعة –
ففي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق، ظاهرين إلى يوم القيامة).
وعن جابر بن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (لن يبرح هذا الدين قائماً يقاتل عليه عصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة) [رواه مسلم].
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: (لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله، قاهرين لعدوهم، لا يضرهم من خالفهم، حتى تأتيهم الساعة وهم على ذلك) [رواه مسلم].
وإنّ مِنْ مُسَلّمَاتِ البشريةِ؛ أنّ أيَّ فكرةٍ وعقيدةٍ – ولو كانت باطلة – لا يمكن أن تحكم ويكون لها كيانها، ما دامت نظريةً لم يُؤْتَ صاحبُها قوةً تنصرها وتحميها، ولهذا فترك الجهاد اليوم أمام اليهود في فلسطين، وأمام الصليبيين الذين يجتاحون العالم الإسلامي؛ يمثل خطراً وهلاكاً للمسلمين في دينهم وفي أنفسهم وفي أعراضهم وفي أموالهم وأراضيهم.
فقد قال تعالى: {وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، فأمر الله تعالى بالجهاد بالمال، وعدم الركون إلى الدنيا، وعلل الحكم بأن ترك الجهاد من إلقاء النفس في التهلكة، لأن العدو إذا غلب على بلاد المسلمين أفسد فيها وأهلك الحرث والنسل وحارب الدين والأخلاق.
عن أسلم عن أبي عمران قال: (غزونا من المدينة نريد القسطنطينية – وعلى الجماعة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، والروم ملصقوا ظهورهم بحائط المدينة – فحمل رجل على العدو فقال الناس: “مه! مه! لا إله إلا الله! يلقي بيديه إلى التهلكة!”، فقال أبو أيوب: “إنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار، لما نصر الله نبيه، وأظهر الإسلام، قلنا: هلم نقيم في أموالنا ونصلحها، فأنزل الله تعالى: {وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، فالإلقاء بالأيدي إلى التهلكة أن نقيم في أموالنا ونصلحها وندع الجهاد”).
قال أبو عمران: (ولم يزل أبو أيوب يقاتل في سبيل الله، حتى قتل في القسطنطينية) [رواه أبو داود].
فبين أبو أيوب رضي الله عنه أن المراد بالآية؛ هو أن الانشغال بالدنيا بإصلاحها، وترك الجهاد والنفقة هو إلقاء الأيدي في التهلكة.
فمن أقبل على إصلاح دنياه، وانشغل بوظيفته، وتنمية أمواله من خلال التجارة وغيرها، وهو يشاهد جيوش الصليبيين تجتاح العالم الإسلامي؛ فهو في حقيقة الأمر يلقي بيديه إلى التهلكة.
فالنجاة تكون بالتصدي للمعتدين وجهادهم، وأما الاستكانة لهم وترك جهادهم فهو الهلاك والهلع.
كما أن المسلم بقعوده عن الجهاد وركونه إلى الدنيا؛ يحرق دينه ويتصف بصفات المنافقين الذين قال الله عنهم: {لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لاَّتَّبَعُوكَ وَلَكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}.
فليس القعود عن الجهاد وخذلان المجاهدين، ومداهنة الصليبيين وعملائهم والخوف من سطوتهم؛ هو طريق السلامة والنجاة، بل هو طريق الهلاك الذي يصيب المسلم في دينه وفي نفسه وماله – كما نص على ذلك القرآن –
فصاحب العلم يهلك نفسه إذا لم يجاهد ويحرض الأمة على مواجهة الصليبيين، والتاجر يهلك نفسه إذا أمسك عن الجهاد بماله خوفاً من الصليبيين وعملائهم، وكل مسلم يهلك نفسه؛ إذا قعد عن الجهاد.
فالجهاد وعزة الأمة؛ قرينان، كما أن ترك الجهاد والذل؛ قرينان، وهذا ما شهدت عليه نصوص الشرع، وشهد عليه الواقع اليوم، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم) [أخرجه أحمد و أبو داود].
وبعد أن بايع المسلمون أبا بكر رضي الله عنه بالخلافة، تكلم أبو بكر رضي الله عنه، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: (أما بعد؛ أيها الناس، فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قويٌ عندي حتى أرجع عليه حقه إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع قومٌ الجهاد في سبيل الله إلا خذلهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم) [رواه ابن إسحاق بإسناد صحيح].
ففي هذه الخطبة؛ ذكر الخليفة أبو بكر رضي الله عنه قواعدَ عظيمةً من قواعد وأصول الحكم في الإسلام، وهي الأصول التي قامت عليها الخلافة الراشدة، فأرشد إلى معاونة الحاكم على البر والتقوى، وأشار إلى نصح الحاكم وتقويمه ومحاسبته عند الإساءة، ثم حث على الصدق وحذر من الكذب، ثم ذكر مساواة الجميع أمام القضاء، وإقامة العدل بين الناس ورفع الظلم، ثم ذكر الجهاد وحذر من القعود عنه، الذي سيكون سبباً للذل، وتسلط الأعداء, وزوال دولة الإسلام، ثم حذر من خطر انتشار الفاحشة، وما يترتب على انتشارها من العقوبات العامة والبلاء، ثم بين أن طاعة الحاكم تكون بالمعروف، فلا يطاع في معصية الله ورسوله.
ادامه خواندن مقاصد الجهاد وأنواعه