الانتماء الذي نريدُ أن نتحدث عنه
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم وسار على نهجهم إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بعد…
الانتماء الذي نريدُ أن نتحدث عنه هو الانتماء إلى هويةٍ واضحةٍ ثابتة، هوية مستقلة متميِّزة؛ فهو الذي يُعطي الأمم الوصف الذي تستحق به أن تكون أمماً، وهو القاعدة الأساسية لبناء الأمم، لأنَّ الهوية التي تنتمي إليها أي أمة هي تميزها عن غيرها.
فما هي هويتنا نحن المسلمون؟ ولمن يكون انتماؤنا؟ وإلى من ننتسب؟ ولأي شيءٍ نتعصب؟ وعلى أيِّ شيءٍ نوالي ونعادي؟
في العصور الأخيرة، وبالتحديد في القرن الهجري الماضي، حصل للأمة المسلمة ما يمكنُ أن نسميهِ أو نطلق عليه ب “أزمة الهوية”، أزمة تحقيق الانتماء، فحصل فيها ولها من التخبط والتنقل على موائد الشرق والغرب، ما أضاع الأمة وأفقدها استقلالها وتميزها وشخصيتها، وإلى هذا اليوم لا تزال الأمةُ تعيشُ هذه الأزمة, أزمة الهوية، أزمة الانتماء، إما في ضياع الهوية ضياعاً كاملاً عند فئةٍ من المستغربين، وإمَّا بالغش والغُبارية وتكدر الرؤية، عن كثير ممن ينتسبُ لهذه الأمة، سواءً كان من عامةِ الشعوب، أو كان ممن ينتمي إلى العمل الإسلامي، أو حتى من الحكومات أو غير ذلك.
لذلك يجبُ أن نحدد هويتنا بدقة، وأن نعرفها بوضوح؛ لنعرف ما هي حقيقتناوأهدافنا، وما هو المنهج الذي يجبُ أن نسير عليه؟
فهل هويتنا هي القومية أم الوطنية؟ أم التبعية للشرق أو الغرب أو لهيئة الأمم؟ أم هويتنا هي السير وفق النظام العالمي الجديد؟
ما هي هويتنا نحن المسلمين؟
إن َّالقومية جاءتنا عن طريق الغرب:
عن طريق أوروبا, ونشرها اليهود في تركيا، فأثاروا النعرة القومية الطورانية؛ ثُمَّ أخذها النصارى المارونيون في لبنان بالتحديد ونشروا القومية العربية، ففرقت بين المسلم من أرض العرب وبين المسلم من البلدان الأخرى، فبدل أن يكون الرقم الذي معنا يتعدى الألف مليون، أصبح لا يتجاوزُ مائة وخمسون مليون.
ثم حصل التفرق والانحطاط، هذه القومية ما أخذت حتى بقيم العرب في الجاهلية، والتي عبر عنها شاعرهم بقوله:
وأغض طرفي إن بدت لي جارتي حتى يواري جارتي مأواها
بل أخذت التحلل والتهتك، والفجور والفساد، ونقلوهُ إلى بلاد العرب بصفةِ التقدم والرقي والحضارة.
هل هويتنا هي الوطنية؟!
إنَّ الأوطان رقعةٌ ضيقة، ما الذي يحدها؟ ما الذي يُبَيِّنُها؟ هل هي المكان الذي قضيتَ فيه حياتك؟ وما تحديد هذا الوطن الذي يجبُ أن يتعصب له الإنسان، وأن يوالي عليه وأن يعادي؟
إنَّ الوطن لا يُحد ولا يوضح، فإذا قيل – مثلاً – إنَّ أهل مصر يجبُ أن يتعصبوا لمصر، فسيختلفُ أهل مصر لأي شيءٍ يتعصبون؛ للصعيد أم للقاهرة؟ وأهل الصعيد سيختلفون لأي شيءٍ يتعصَّبون لأسوان أو لأسيوط؟ إنَّ هذه الهوية لا تحديد لها، وإنَّها تفرقةٌ وضعفٌ وخورٌ في الأمة.
هل ننتمي لهيئةِ الأمم؟
وللشرعيةِ التي يُطنطنون بها، وهي في واقع الأمرِ جاهلية يُسيِّرها اليهود والنصارى، فنحن كما قال جرير:
ويقضى الأمر حين تغيب تيم ولا يستأمرون وهم شهود
أم هل ننتمي للنظام العالمي الجديد؟ الذي نكون عجلةً من عجلاته، ولكن السائق غربي يقود الحافلة، إلى أي شيءٍ ننتمي؟ وما الذي يُميزنا عن غيرنا؟ وما الذي يحدد هوية هذه الأمة؟ ما الذي يجعلنا نجتمع على كلمة سواء؟
إنَّ هويتنا أيُّها – الأخ القارئ -؛ هي هذا الدين الذي أكرمنا الله به وأخرجنا به من الضلالةِ إلى الهدى، ومن العمى إلى البصيرة، هذا الدين هو القاسم المشترك الوحيد الذي تلتقي عنده وحدة الإسلام، هذه الأمة الكبرى من مشرق الأرض إلى مغربها، فلا يجمعها جنسٌ ولا تجمعها لغةٌ ولكن يجمعها دين واحد، هو هذا الدين الذي اتحدت وائتلفت عليه.
لقد كان المسلمُ يخرجُ من أقصى المغرب وينتقل إلى أقصى المشرق وهو يعتبر الجميع بلاده، بل إنَّهُ ينتقلُ من بلدٍ بعيد إلى بلد آخر، فإذا جاء احتفى به أهل البلد وعينوه لهم قاضياًوإماماً.
انظر – مثلاً – إلى ابن خلدون العالم الكبير والمؤرخ، وهو صاحبُ “المقدمة” التي هي من قواعد علم الاجتماع, ولد في بلاد تونس، وفيها نشأ وانتقل إلى بلاد الأندلس، فاستقبلوه استقبالاً حافلاً، وانتقل إلى مصر فعينوه فيها قاضياً.
وهكذا كانت الأمة:
ولستُ أدري سوى الإسلام لي وطناً الشام فيه ووادي النيل سيانِ
وكل ما ذكر اسمُ الله في بلدٍ عددت أرجاءه من لب أوطانِ
بل إنَّ تاريخ هذه الأمة المسلمة يتعدى الألف وأربع مائة سنة، الماضية إلى أعماق التاريخ, إلى يوم أن أنزل آدم عليه السلام إلى هذه الأرض، منذ أن وجد الإسلام على هذه الأرض وذاك هو تاريخنا.
إن َّالأمة المسلمة أمة واحدة من عهد آدم عليه السلام، كما قال الله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [سورة الأنبياء: ۹۲]، وقال سبحانه في سورة المؤمنون: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [سورة المؤمنون: ۵۱].
فدين هذه الأمة دين واحد هو الإسلام: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ} [سورة آل عمران]، وتاريخها واحد هو تاريخ الأنبياء – عليهم الصلاة والسلام – ثم أتباعهم من المؤمنين.
ادامه خواندن الانتماء الذي نريدُ أن نتحدث عنه